الإيمان و الأمراض النفسية: ما العلاقة؟

الإيمان و الأمراض النفسية، ما العلاقة يا ترى؟ كثيرا ما نسمع كلمات الدعم و المواسات الموجهة للمصاب بمرض نفسي، و التي تتضمن أغلبها مسألة تقوية الإيمان كسبيل للظفر بالسكينة و الراحة النفسية. و يذهب آخرون أبعد من ذلك، متهمين المريض النفسي بضعف إيمانه، فلو كان إيمانه قوياً لما أصابه ما أصابه حسب زعمهم.
في الجانب الآخر، يشارك المادِّيُون في هذا الجدل القائم حول الإيمان و أثره على الصحة النفسية، باعتراض مفاده أن الأمراض النفسية مسألة علمية بحتة، تدرس من جانب علم النفس و علم الأعصاب، و لا علاقة للإيمان أو الدين بها.
هذا الجدل القائم ليس وليد اللحظة، بل كان منذ مئات السنين محل نقاش و جدال بين من يسمونهم “المادِّيُون” و بين المتدينين، حيث شارك في هذا النقاش الكثير من علماء النفس و الفلاسفة عبر التاريخ. فأي الفريقين أقرب للصواب؟

دراسات تقف إلى جانب المتدينين
قام الباحثان “خوسيه مانويل” و ” أليكساندرا فليشمان” بدراسة بحثية عام ٢٠٠٢، الهدف منها مقارنة نسبة الإنتحار بين مختلف الديانات و بين الملحدين، معتمدين في ذلك على مراجع موثقة للأمم المتحدة.
كانت نتائج الدراسة صادمة للمدافعين عن القول الزاعم بانعدام تأثير الإيمان و الدين على سلامة الصحة النفسية لمعتنقيه، حيث عرفت فئة الملحدين أعلى نسبة انتحار بدون منازع، بينما وُجِدَ أن نسبة الإنتحار بين المسلمين شبه منعدمة.
أُرْجِعَ الأمر حسب الباحثين ،إلى تحريم الإسلام الشديد للإنتحار، بالإضافة إلى المحيط الإجتماعي الذي يعيش فيه المسلم، و الذي يتميز بالتواصل و التآزر، عكس ما يعيشه العالم الغربي.
العديد من الدراسات و الأبحاث الأخرى خلصت إلى أن : المؤمن أبعد من غيره عن الإصابة بالأمراض النفسية، أجدر في التعامل معها إيجابيا إن وجدت، و أسرع تعافيا منها مقارنة بغيره.

كيف يرى الماديون الأمر بالضبط ؟
يعتقد الماديون بأن الأمراض النفسية مسألة علمية بحتة، لا دخل للدين و الجانب الروحاني فيها، فهي حسب زعمهم مجرد خلل في كيمياء الدماغ لا أقل و لا أكثر.
الماديون كما يعرف الجميع، يعتقدون بأولوية المادة و بأن الروح غير موجودة، لذلك فهم يبالغون في التأكيد على أهمية العوامل البيولوجية دون غيرها في الصحة النفسية
الدين أم العلم ؟
قد تجد البعض أحيانا يتسائل: هل حقا الإكتئاب مجرد خلل في كيمياء دماغي كما يقول العلم؟ أم هو فعلا ابتلاء من الله أو ضعف في الإيمان أو تلك التبريرات التي تقحم الدين في الأمر؟
المشكلة في هذا الأمر هو أن السؤال غير منطقي أصلاً!، لأن كل ما نراه من العلم و الأمراض النفسية و علم النفس و علم الأعصاب، هو من صنع الله أولا و أخيراً، ليس بالضرورة أن يكون أحد الأمرين فقط إما أمر ديني أي ابتلاء من الله و إما مرض نفسي أي خلل في كمياء الدماغ مثلا.
الأمر الأول و الثاني يسيران بالتوازي، بدل أن نقول مثلاً فلان ابتلاه الله بالحزن و نجعل الأمر “مسألة دينية” قد نقول فلان إبتلاه الله بنقص في مستويات السيروتونين في دماغه مما أدى إلى إصابته بالإكتئاب.
نشير إلى الدين كأنه أمر بعيد عن العلم، لكن من أنزل الدين هو نفسه من خلق الأمراض و الهرمونات و الناقلات العصبية و كل هذا، و هو سبحانه وتعالى من يُحَرِّكُهَا كيف يشاء.
هل المؤمن محصن من المرض النفسي؟
ليس بالضرورة، نعلم جميعاً أن الله سبحانه و تعالى لم يعد عباده بجنة في الأرض بل على العكس، جعلها دار ابتلاء و امتحان.
لا يمكن أن ننكر الأثر الإيجابي للإيمان بالله و اليوم الآخر و الإيمان بالقدر خيره و شره على الصحة النفسية، حيث أن هناك المئات الدراسات التي أجريت على ما مجموعه ملايين البشر، تُظهر لنا بوضوح أن المتدينين هم أقل إصابة بالكثير من الأمراض النفسية كالاكتئاب والقلق و الجسدية مثل السرطان وأمراض القلب والجلطات، وهم أيضا أقل انتحارا، وأكثر قدرة على التعافي وبشكل أسرع، وأكثر قدرة على التأقلم مع ضغوطات الحياة.
لكن هذا لا يعني بالضرورة أن المؤمن لا يمكن بتاتا أن يصاب بمرض نفسي. لا يمكن على سبيل المثال، أن تنتظر من شاب مؤمن حقا الإيمان، عاش مع أب سِكِّير لم يَدَّخِرْ جهدا في تعنيفه بدنيا و لفظيا في صغره، أن يكون سليماً نفسيا.
العوامل المؤثرة على الصحة النفسية كثيرة جدا و مرتبطة ببعضها البعض، و لا يمكن أن نلخصها في الإيمان وحده -رغم أهميته الكبيرة- و نحكم على المريض ظلماً بضعف إيمانه، فالله سبحانه و تعالى هو الأعلم بقلوب عباده و هو وحده من له الحكم
كيف للإيمان أن يكون له هذا التأثير الإيجابي؟
الكثير و الكثير من الأسباب التي يمكن أن نذكرها في هذه الفقرة، كمبدأ احتساب الأجر في الإبتلاء، الذي يجعل المؤمن قادراً على تحمل ما أصابه، بل و يرى في ذلك رفعة لمنزلته في الجنة. بالإضافة إلى إيمان المؤمن بأن كل ما أصابه فيه خير له، لكن ما نريد أن نسلط عليه الضوء أكثر هو “المعنى.
لاحظ العالم النمساوي “فيكتور فرانكل” أثناء فترة سجنه في سجون النازية، أن النزلاء الذين يملكون معنى لحياتهم و يسعون لهدف معين، هم أكثر تحمُّلاً لقساوة السجن و أكثر قدرة على الإستمرار و النجاة من ويلاته. الأمر الذي ساعد فرانكل بنفسه، حيث كان يتخيل الإستقبال و الحفاوة التي سيلقاها من عائلته بعد خروجه، ما ساعده كثيراً على النجاة و التحمل كما قال في كتابه “البحث عن “المعنى”.
أي معنى و أي هدف هذا، الذي له القدرة على إحداث هذا التأثير الإيجابي أكثر من المعنى الذي يستنبطه المسلمون من إيمانهم ؟ المعنى الذي يجعل للحياة حكمة عالية و غاية عظيمة، المعنى الذي يجعل الحياة مجرد طريق تمر عبره للنعيم الأبدي، تبذل فيها ما ستلقى نتائجه الغد، و ما لا يمكن لبشر أبداً أن يلقاه في هذه الدنيا
المعنى الذي يظهر الحجم الحقيقي لهذه الحياة، فيدركه المؤمن و تطمئن نفسه، و لا يأسى على ما فاته منها!
لا تعليقات بعد على “الإيمان و الأمراض النفسية: ما العلاقة؟”