قصة عجيبة ساهمت في تطور علم النفس

قصة عجيبة ساهمت في تطور علم النفس! كيف ؟
في اليوم ١٣ من سبتمبر عام ١٨٤٨، كان “فينس غيج”، قائد فرقة العمال المكلفة بتمهيد الطرق لمَدِّ خط السكة الحديدية، يحظى بيوم تقليدي في عمله كباقي الأيام. لكن ماحدث له ذلك اليوم، أحدث ثورة في علم الأعصاب و الطب النفسي. وحتى هذه اللحظة، لا زالت جمجمته في متحف وارن التشريحي بجامعة هارفرد، ولا بد أن تسمع إسمه في قاعات الدراسة، إن درست علم الأعصاب أو علم النفس أو حتى علم الإجتماع.
ما الذي غيره فينس غيج في علم الأعصاب و الطب النفسي؟ و ما الحادثة المروعة التي حدثت في الثالث عشر من سبتمبر عام ١٨٤٨ ؟

من هو فينس غيج و ما عمله ؟
فينس غيج، رجل عادي في الثلاثينيات من عمره، وسيم و نشيط كما يصفه أصدقائه، كما أنه كان يتَّسِم بالذكاء و الإنضباط و العديد من الصفات الحميدة، التي جعلته يفوز بمنصب القيادة على فرقة من زملائه في العمل.
في ذلك اليوم، كان هذا الرجل يقوم بعمله المعتاد، تمهيد الطرق لمَدِّ خط السكة الحديدية. والذي هو باختصار، إحداث تفجيرات عن طريق حَفْرِ حفرة بجانب إحدى الصخور، ثم يملأها بالبارود و المفرقعات، و يَدُكُّ تلك المفرقعات في الأخير بقضيب حديدي له نهاية تشبه الرمح.
تفاصيل الحادثة
فجأة و بينما لم يبتعد بعد فينس غيج عن الموقع، حدث انفجار عميق أدى إلى اندفاع القضيب الحديدي الذي يفوق طوله المتر و يبلغ قطره ثلاثة سنتمترات، مباشرة نحو وجه فينس غيج، ليمر خلال فكه العلوي وعظام الخد الأيسر و خلف العين، قبل أن يمزق الفص الجبهي الأيسر و عظام الجمجمة، ليجدوه على بعد أكثر من ثلاثين متراً من مكان الحادثة ملطخا بالدماء و أنسجة دماغه!

رد فعل غير متوقع !
عند وصول زملائه لتفقد حالته، هَالَهُم هول ما رأو. صحيح أن ما أدهشهم هو حالة زميلهم المأساوية، لكن ما زاد من هذه الدهشة كثيراً هو أن فينس غيج بادر مباشرة بالنهوض، و استطاع فعلاً الوقوف على قدميه بمساعدة أصدقائه، بل و أراد أن يذهب سيراً على الأقدام نحو الطبيب المحلي للبلدة!
لكن بطبيعة الحال منعه أصدقائه و تم نقله سريعا إلى منزله. فور وصول طبيب البلدة الذي تم استدعائه إلى منزل فينس غيج، أصابته الدهشة من حالته المأساوية، لكن فينس غيج استقبله بابتسامة عريضة محدثاً إياه: ” تعال أيها الطبيب، ينتظرك هنا الكثير من العمل! “
كلنا نعرف أن الكثير من الناس أصابتهم مصيبة الموت بسبب فيروس صغير لا يرى بالعين المجردة، و كثيرٌ آخرون ممن ماتوا بسبب عضة كلب! و من الناس من يموت بسبب تلوث جرح صغير في قدمهم. لكن تخيل معي أخي القارئ، أن فينس غيج نجى من الموت بعض مرور قضيب حديدي يفوق وزنه الخمسة كيلوغرامات خلال رأسه، بل عاش بعد هذه الحادثة لأكثر من ١٢ عاماً!

التطور الأول الذي ساهمت فيه هذه الحادثة
في ذلك الوقت من الزمن، كان العلم ينظر إلى الدماغ على أنه لا يستطيع أداء وظيفته على الإطلاق إِلَّا بسلامة جميع أجزاءه بشكل تام. بمعنى أن أي إصابة تحدث لجزء منه، تؤدي إلى توقف الدماغ بالكامل و الوفاة. لكن القضيب الحديدي الذي اخترق جمجمة فينس غيج قد دمر تماماً الفص الجبهي لدماغه، لكنه لم يمت بل عاش لأكثر من ١٢ عاماً بعد تلك الحادثة! الأمر الذي أحدث اضطراباً كبيراً في مفاهيم علم الأعصاب في ذلك الزمن، لكن الأمر المدهش لم يأتي بعد.
تغييرات نفسية عجيبة !
بعد مرور سبعة أشهر تقريبا عن الحادثة، أخبره الطبيب بأنه في عافية تامة، بغض النظر عن التشوهات في رأسه و فقدان البصر في عينه اليسرى التي مر القضيب من وراءها. و لم يكن يعاني في تلك المرحلة من أي آلام جسدية، لكن فينس غيج أخبر الطبيب بأنه يشعر بتغييرات نفسية لا يمكنه وصفها!

هل تذكر عزيزي القارئ بأن فينس غيج كان يَتَّسِم بالذكاء و الإنضباط و العديد من الصفات الحميدة؟ و هل تذكر بأن هذه الصفات الحميدة، هي من جعلته يفوز بمنصب القيادة على فرقة من زملائه في العمل؟ حسناً!
بعد الحادثة طردت شركة الحفر فينس غيج من العمل نهائياً، ليس بسبب عِلَّة في جسده تعيقه عن العمل، فقد كان سليماً جسدياً كما قال الطبيب و كما قال هو بنفسه، بل كان الطرد بسبب اختفاء كل تلك الصفات الحميدة فجأة، لدرجة أن زملائه في العمل قالوا: إنه ليس غيج الذي عرفناه قبل الحادثة!
أصبح فينس غيج بعد الحادثة رجلا فظاً غليظ القلب، عنيفاً لا يستطيع السيطرة على غضبه. كما أنه فقد القدرة تماماً على التخطيط و التحكم في ردود أفعاله، و فقد القدرة على كبح شهواته و رغباته. كان سلوكه الإجتماعي بشكل عام يتسم بالعدوانية، و فقد الرغبة تماماً في الجنس الآخر، بالإضافة إلى العديد من التغيرات السلبية في شخصيته و نفسيته. و يبقى السؤال المهم هو: كيف حدث كل هذا ؟!
التطور الثاني الذي ساهمت فيه هذه الحادثة
هل تذكر عزيزي القارئ بأن القضيب الحديدي، الذي اخترق جمجمة فينس غيج ، قد دمر تماماً الفص الجبهي لدماغه ؟ كانت تلك الحادثة هي اليدُ التي قدمت للعلم، على طبقٍ من الدّم للأسف، فهم العلاقة بين سلوكيات الإنسان و الفص الجبهي لدماغه، العلاقة التي لم تكن معروفة ذلك الوقت، حيث كان يُنْظَرُ إلى الفَصِّ الجبهي، الذي يتموضع في الجزء الأمامي من الدماغ، على أنه مجرد واقٍ لأجزاء الدماغ الخلفية!

تلك الحادثة، هي من جعلتنا نعرف اليوم بأن الفص الجبهي في الدماغ، يلعب دوراً أساسياً في الوظائف العقلية العليا كالحركة، التخطيط، السلوك الإجتماعي و تشكيل الكلام. و القدرة على تمييز العواقب المستقبلية الناجمة عن السلوكيات الحالية، بالإضافة إلى القدرة على التمييز و الإختيار بين السلوكيات الإيجابية و السلوكيات السلبية، و القدرة على قمع ردود الأفعال الإجتماعية المرفوضة و العديد من سلوكيات الإنسان المهمة و الأساسية.
لذلك لم يمت فينس غيج نتيجة لتضرر الفص الجبهي لدماغه، لكنه فقد القدرة على التحكم في كل ماسبق، وفقد السيطرة على حياته بشكل تام!
حادثة في يوم عمل عادي، نقلت علم الأعصاب و علم النفس إلى مراحل متقدمة جدا. و حتى اللحظة، لا زالت جمجة فينس غيج و القضيب الحديدي في متحف وارن التشريحي بجامعة هارفرد، فسبحان من خلق فسوى و سبحان من يدبر الأمر.
إقرأ أيضا: الدوبامين: هل هو هرمون السعادة حقا؟
Featured Image by Wikimedia Commons
معلومات قيمة جدا بارك الله فيك و في مجهوداتك واصل